العوامل والقوى الثقافية المؤثرة على النظم التعليمية
إن العوامل الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر، كما أن لها تأثير كبير في تشكيل نمط الحياة السائدة في المجتمع ويوجهها، ويتأثر النظام التعليمي بتلك العوامل الثقافة، ذلك لأن أي نظام تعليمي يكون وليد البيئة والظروف المتواجدة في هذا المجتمع، وقد تم التطرق في هذا الفصل لأهم العوامل والقوى الثقافية المؤثرة على النظم التعليمية في المجتمعات المختلفة.أولاً: العامل الجغرافي:
إن الموقع الجغرافي والمناخ والتضاريس لأي دولة تؤثر بوضوح على طابع حياة البشر ونشاطهم وخصائصهم، فالسكان في المناطق الجبلية يختلفون عن المناطق السهلية، والسكان في المدن يختلفون عنهم في الريف وهكذا، وكذلك الدول التي تعيش في مناخ شديد الحرارة تختلف طبائع شعوبها عن تلك التي تعيش في مناخ شديد البرودة أو ذات المناخ المعتدل.
كما أن العامل الجغرافي يؤثر أيضا على ملامح النظم التعليمية في البلدان المختلفة، من حيث شكل الأبنية التعليمية، وسن القبول في المدارس، ونوعية البرامج الدراسية والمقررات المقدمة للطلاب، وحاجات البيئات المختلفة من المهارات والقوى العاملة التي يعدها التعليم.
فالمبنى المدرسي في البلاد الشمالية الباردة مثل الدنمرك وفنلندا والنرويج والسويد وغيرهم، لا يمكن أن يكون مكشوفا نظرا لشتاء تلك البلاد القارس، وعواصفها الثلجية العنيفة، بينما نجد هذا النوع من المدارس هو النمط السائد في كثير من البلاد الحارة، كما أن من الحضور الإجباري إلى المدارس، يبدأ متأخرا سنة أو سنتين في البلاد الشمالية الباردة عن البلاد الأخرى، لأن برودة الجو الشديدة، لا تجعل من التحاق الأطفال بالمدارس مناسبا قبل سن السابعة، وعلى العكس من ذلك، تسمح الأجواء المعتدلة في حوض البحر الأبيض المتوسط، بإلحاق الأطفال بالمدارس في سن مبكرة، كما هو الحال في اليونان وإيطاليا واسبانيا.
تأثير المناخ في البلاد الشمالية على النظم التعليمية بها:
إن مناخ البلاد الشمالية الباردة الذي يتميز بشدة العواصف الباردة، وتساقط الكتل الثلجية، قد يلزم سكان هذه الدول بالمكوث في بيوتهم لساعات طويلة، كما أدت الكثافة السكانية القليلة في هذه الدول إلى تفرق البيوت عن بعضها البعض، مما كان لكل ذلك أثره على النظام التعليمي في هذه الدول وقد تمثل ذلك في:
۱- تزايد دور التعليم المنزلي في تربية الأطفال وتعليمهم: لأن الطفل يقضي معظم وقته في البيت، وأصبح جزء من التعليم يقوم به الوالدين في المنزل، فظهرت صيغ تعليمية جديدة كالتعليم الذاتي، والاعتماد على الإنترنت والفيديوهات المسجلة والممغنطة في تقديم المادة العملية للطفل، وغيرها.
٢- تأخر إرسال الأطفال إلى المدرسة حتى سن السابعة.
3ـ قلة الحاجة إلى إنشاء دور الحضانة، نظرا لصعوبة الطقس معظم أيام السنة.
٤- اهتمام المناهج بتعليم المهارات اليدوية، وربط المدرسة بحاجات البيئة.
5- اليوم الدراسي قصير، قد لا يتجاوز 4 ساعات، كما أن العام الدراسي قصير لا يصل إلى شهرين.
6- الأخذ بنظام اللامركزية في التعليم
7- برز الدور الاجتماعي للمعلم، وأصبح له قيمته في المجتمع.
٨- انتشار المباني المدرسية ذات الملاعب المسقوفة، والمزودة بوسائل التدفئة وذات واجهات زجاجية كبيرة تسمح بإدخال أكبر كمية من الضوء.
وذلك على عكس الدول الواقعة في الأقاليم الاستوائي، والتي تتمتع بدرجات حرارة مرتفعة، سنجد أن ذلك يؤثر على نظامه التعليمي في ظهور مدارس الهواء الطلق والغير مسقوفة، وقد توجد دراسة مسائية في بعض المدارس، كما أن سن التعليم الإلزامي قد يبدأ في وسن السادسة، والإجازات تكون مع بداية الصيف، فمثلا في الدول العربية تبدأ الإجازة من منتصف يونيو إلى سبتمبر، بينما في البرازيل تبدأ الإجازة من ديسمبر إلى فبراير، لأنها تمثل الصيف في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية.
كما تؤثر مساحة الدول وطبيعتها الجغرافية في ملامح نظمها التعليمية، فمثلا استراليا ذات مساحة شاسعة وكثافة سكانية قليلة، حيث يتركز 74% من عدد السكان في 6 مدن رئيسية، وكان هذا له أثر على النظم التعليمية في استراليا، فكان النظام التعليمي في المدن الرئيسية نظام يتمتع باللامركزية، أما في باقي المناطق فهو نظام مركزي لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
كما لجأت الحكومة الاسترالية إلى عدة وسائل لتأمين الخدمة التعليمية لكل أبنائها مثل:
التعليم بالمراسلة، والمدرسين المتنقلين، والزيارات غير المنظمة للمفتشين، وقد انتشرت والمدارس الكبيرة ذات الفصول الكثيرة المجهزة في المدن الكبيرة، والمدارس الصغيرة ذات المعلم الواحد في المناطق النائية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فتتكون من 51 ولاية، والمسافة بينها بعيدة، لذلك تركت الحكومة الفيدرالية مسؤولية التعليم لحكومة الولايات، فكل ولاية تدير التعليم وتموله وترسم سياساته وتخطط مناهجه ونشاطاته، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد اتبعت أيضا اللامركزية في إدارة النظام التعليمي.
ثانياً: العامل التاريخي:
إن العامل التاريخي له أهمية كبيرة في فهم النظم التعليمية القائمة بالبلاد المختلفة، فالتاريخ ليس مجرد البحث في الوقائع والأحوال والحوادث الماضية، والوقوف عند حد (وصف) ما جرى فقط، وإنما هو يتعدى ذلك إلى إرجاعها إلى أسبابها، وربطها بنتائجها من جهة، وربط بعضها ببعض من جهة أخرى، مما يجعل التاريخ ليس مجرد دراسة وصفية، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب.
ويظهر أثر العامل التاريخي في أي نظام تعليمي في مجموعة العناصر الثقافية التي تشكل وجدان الأمة، بما فيها من مؤسسات وأحداث وأفراد وآثار وأساليب الحياة والعادات والتقاليد والموروثات الثقافية وغيرها، حيث أن الأفراد، والمحيط الذي يعيشون فيه، كلاهما ثمرة كل ما مضى قبلهم، فالحاضر في أي بلد إنما هو ثمرة نمو هذا البلد عبر عصوره التاريخية القريبة أو البعيدة، والشكل الذي تبدو عليه مشكلة من المشكلات في وضعها الراهن، إنما هو نتيجة لتطور هذه المشكلة منذ عهد قريب أو منذ عهود بعيدة، وبالتالي فإن لكل مجتمع من المجتمعات نظامه وهويته الخاصة به، ومن ثم فإن النظام التعليمي في أي بلد قد نما وتطور على أرض الواقع، متأثرا - في نموه وتطوره - بظروف الزمان والمكان جميعا.
ثالثاً: العامل السياسي:
ويعد العامل السياسي من العوامل المهمة المؤثرة على النظم التعليمية في معظم الدول، فسياسة التعليم تعد انعكاسا للنظام السياسي في معظم المجتمعات، والظروف السياسية والنظم السياسية التي يتبعها مجتمع ما قد تفرض وضاعا معينة على النظام التعليمي، ففي الدول التي سيطر عليها الاستعمار عسكريا، كان أيضا يؤثر على النظم التعليمي في إدراج برامج ومقررات دراسية تخدم الأهداف الاستعمارية كتعليم لغة المستعمر ، ونشر ثقافته وقيمه وعاداته وتقاليده عبر النظم التعليمية ، مما يسهل معه السيطرة على عقول تلك الشعوب لتصبح تابعة لهذا الاستعمار، ومن ثم تقليل مقاومة الشعوب لوجودهم على أراضيهم، وبالتالي فإن سياسة التعليم تنبثق من السياسة العامة التي تنبعها الدولة، وتعد انعكاس للمبادئ التي تطبقها كالديموقراطية وغيرها.
كما تتأثر النظم التعليمية بنوع الأيديولوجية السائدة في المجتمع، فالنظم التعليمية في الدول الرأسمالية تختلف عنها في الدول الاشتراكية، حيث تقوم الرأسمالية على فلسفة واضحة، حيث ترى أن الرخاء الاقتصادي للدولة إنما يتحقق على أساس النشاط الفردي، والمبادرة الفردية، المعتمدين على التجربة الفردية والذكاء الفردي، دون تدخل أو توجيه من الدولة، وإنما هي تدع ذلك للرأسماليين أنفسهم، أفرادا كانوا أو هيئات أو شركات أو مؤسسات، وهو منتشر في بلاد أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من بلاد العالم المتقدم، بينما تؤكد الاشتراكية على أهمية تدخل الدولة في هذه الأمور جميعا، بالتخطيط والتوجيه والإشراف.
فالنظم التعليمية في البلاد الرأسمالية تعتمد على الجهود الشعبية، حيث نجد الشعب في كل بلد رأسمالي هو الذي يهتم بالتعليم، ويهتم بتمويله وتطويره والإشراف عليه، لأنهم يعتبرون التعليم استثمارا، لا يقل أهمية عن الاستثمار في المشروعات المختلفة، ومن ثم يقوم التعليم في هذه البلاد على أساس المنافسة بين مختلف الجهات المحلية في تقديم الخدمة التعليمية لأبنائها، دون تدخل الدولة بشكل مركزي ومباشر في شئون التعليم، ولكن تدخلها يكون عادة في نطاق تقديم المساعدة المالية والمساعدة الفنية، أو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية بين الأفراد، وبين مختلف الجهات المحلية، كالتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما النظم التعليمية في البلاد الاشتراكية فتعتمد على الدولة بشكل كبير، حيث يلقى على عاتق الدولة الكثير من الأعباء، من تحديد الأهداف التعليمية العامة للدولة ووضع البرامج الدراسية المناسبة لها، وتحديد المقررات الدراسية التي تقدمها لأبناء الوطن، كما أن لديها صلاحيات تعطي لها حق التدخل في شئون الأفراد والمؤسسات من أجل تنظيمها ومتابعتها والإشراف عليها وإدارتها وتقييمها، كالتعليم في روسيا.
رابعاً: العامل الاقتصادي:
إن اختلاف الظروف الاقتصادية بين الدول، أدى أيضا إلى اختلاف نظم تمويل التعليم فيها وكذلك اختلاف نوعية البرامج الدراسية المقدمة للطلاب، فمثلا في مصر القديمة، كان علم الزراعة يحتل مكانة مهمة حيث أبدع فيه المصريون وتقدموا فيه كثيرا، وكان للنيل أثر كبير في تطور الفكر المصري، لأنه هو الذي وجه جهود المصريين - في أول الأمر - إلى الحياة الزراعية والعلوم الهندسية والفلكية، ثم بقية العلوم المتعلقة بذلك، فمن خلاله عرفوا فصول السنة وأوقات الزراعة ومساحة الأرض وتنظيم المساحات الزراعية وغيرها، وعندما ظهرت الكتابة، أدى ذلك إلى طفرة كبرى، ظهرت معها أهمية التعليم، من أجل التعيين في وظيفة الكاتب، وكانت حينها وظيفة لها شأن كبير.
وقد أحدثت الثورة الصناعية التي وقعت في أوربا تغيرات كثيرة متلاحقة في مجال الاقتصاد والتصنيع خاصة، كانت له آثاره الكبيرة على نظم التعليم في بلاد أوربا المختلفة، حيث تم استبدال العمل اليدوي بالآلات والماكينات، وظهرت العديد من الاختراعات أدت إلى ميكنة صناعة الغزل والنسيج، وصناعة التعدين، واستخراج الفحم، ثم اكتشاف الطاقة البخارية، تلاها اكتشاف الطاقة الكهربائية، ثم الطاقة الذرية وغيرها.
ولا يقف تأثير هذه العلاقة بين الحياة الاقتصادية والحياة التعليمية عند حد المناهج والمقررات الدراسية التي تعكس ما يجري من ألوان النشاط الاقتصادي، ولكنه يتعدى ذلك إلى أن التعليم هو الذي يقوم بخلق الدافع Motivation نحو نشاط اقتصادي بعينه ، حيث تهتم المدرسة بإيجاد مهارات خاصة وتنمية اتجاهات إيجابية نحو ألوان النشاط المختلفة ، وبهذا المعنى، صارت تنمية رأس المال البشري جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن الإنسان غاية هذه التنمية ووسيلتها في نفس الوقت، فمن أجله ترسم الخطط والسياسات، وبجهوده الفكرية والجسدية والتنظيمية، تتحقق أهداف هذه السياسات.
خامساً: العامل الديني:
يعد العامل الديني من أهم العوامل التي تشكل ثقافة المجتمعات وتحدد قيمه ومفاهيمه وأنماط تفكير أفراده، وعاداتهم وتقاليدهم وآرائهم، ففي العصور الوسطي كانت للكنيسة في أوروبا مكانة متميزة، وكانت مسيطرة على جميع مناحي الحياة بما فيها النظام التعليمي، فكان رجال الدين يدرسون ويضعون المناهج الدراسية، كما كانت هناك مدارس في الأديرة لإعداد الرهبان وإيجاد أفراد متعلمين يلمون بتعاليم الدين المسيحي للدعوة والتبشير به، ثم بدأت الثورات في أوروبا ضد الكنيسة لإزالة سيطرتها على شؤون الحياة ، كثورة مارتن لوثر في ألمانيا كما كان للعامل الديني عند العرب والمسلمين أثر كبير على النظام التربوي في العصور الوسطي، والذي سمي بالعصر الذهبي للمشرق الإسلامي، حيث تحددت المبادئ الأساسية للعملية التربوية والتعليمية على ضوء القرآن والسنة، وهما المصدران الأساسيان للتشريع في جميع الأنظمة التي تطبق في المجتمع الإسلامي، ومن ثم يستمد النظام التربوي فلسفته وأهدافه ووسائله وأساليبه منهما.
وقد انتشرت المساجد مع الفتوحات الإسلامية، وأقبل المسلمون يتعلمون، وتطوع بعضهم بالتدريس فيها، وظهرت الكتاتيب، والتي تعد مؤسسة تربوية إسلامية تهدف لتعليم القرآن والفقه والقراءة والكتابة والحساب، ثم ظهرت المدارس، وتنوعت فيها المقررات والمناهج الدراسية، حيث كانت المقررات الدراسية في بداية الإسلام مرتبطة بالقرآن والسنة وتعليم القراءة والكتابة والحساب، فقد اهتمت المرحلة الابتدائية بتحفيظ القرآن، أما المرحلة العالية قتتم في الأزهر وغيره من المساجد الجامعة ويدرس فيها اللغة، الحساب، المنطق، العلوم الشرعية وغيرها.
ثم ظهرت علوم جديدة نتيجة نمو الحركة العلمية في المجتمع الإسلامي مثل: علم المنطق، الفلك، الهندسية، الجغرافيا، التاريخ، الطب وغيرها، كما اختلفت مناهج التدريس وطرقه في العالم الإسلامي وفقاً لاجتهادات المعلمين.
End of Topic
(إيجاد)
(اطّلِع، تعرف، تعلم، درب عقلك، طور من نفسك، زِد معرفتك، كُن على معرفة، فالمعرفة بين يديك)
أهلاً ومرحباً بكم في | إيجاد | تسعدنا آرائكم ومشاركتكم معنا دائماً، فتشاركونا بآرائكم وتعليقاتكم التي تدفعنا إلى مزيداً من العطاء وإيجاد المعرفة