التربية المقارنة والنظم التعليمية:
شهد العالم العديد من التطورات السريعة والتغيرات المتلاحقة في العديد من المجالات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية، خاصة أننا نعيش في عصر العولمة الذي أصبح العالم فيه قرية صغيرة، حيث يمكنك معرفة ما يحدث في أي مكان بالعالم وفي نفس اللحظة، دون الحاجة للتنقل والذهاب إلى مكان الحدث، وذلك بفضل تقدم وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي كان لها تأثير واضح في إحداث بعض التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها في العديد من دول العالم، والذي كان له تأثير على تطوير النظم التعليمية فيها، ولدراسة تلك النظم التعليمية والاستفادة من خبراتها، كان من المهم التعرف على مفهوم التربية المقارنة واهميتها في دراسة النظم التعليمية المختلفة وكيفية الاستفادة منها في تطوير نظامنا التعليمي.
- مفهوم التربية المقارنة:
ظهرت العديد من التعريفات لتحديد مفهوم التربية المقارنة، ومن هذه التعريفات:
1- تعريف " مارك جوليان " للتربية المقارنة " عام 1817م ":
لقد عرف جوليان التربية المقارنة بأنها الدراسة التحليلية للتربية في البلاد المختلفة، بهدف الوصول إلى تطوير النظم القومية للتعليم وتعديلها بما يتمشى مع الظروف المحلية، والتي تقوم على أساس الوقائع والمشاهدات التي ينبغي ان ترتب في جداول تحليلية يسهل مقارنتها، حتى يتسنى استخلاص مبادئ وقواعد مضبوطة منها.
2- تعريف " مايكل سادلر " للتربية المقارنة " عام 1900م ":
يؤكد سادلر أكثر من غيره على أهمية الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والقومية المحيطة بالنظام التعليمي، ويرى ان اختلاف هذه الظروف هي التي تسبب اختلاف نظم التعليم وسياساته، ففي بحثه المسمى " إلى أي حد يمكننا أن نتعلم شيئاً ذا فائدة علمية من دراسة النظم التربوية الأجنبية؟ ". قال عبارته المشهورة " يجب ألا ننسى أن هناك أشياء خارج المدرسة، قد تكون أكثر أهمية من الأشياء التي داخلها، بل إنها تحكم هذه الأشياء الأخيرة وتفسرها، ولا يمكننا أن نجول بين النظم، ونقطف زهرة من غصن وبضعة أوراق من غصن آخر، ثم نتوقع لو غرسناها جميعاً في تربة بلدنا فإننا نحصل على نبات حي، إن النظام القومي كائن حي، وهو نتاج الصراعات التي نسيناها والصعاب والمعارك التي قامت منذ زمن طويل ".
3- تعريف " إسحق كاندل " للتربية المقارنة " عام 1933 ":
ويرى كاندل أن التربية المقارنة امتداد لتاريخ التربية حتى الوقت الحاضر، باعتبار أنها مقارنة لفلسفات التربية المختلفة، ودراسة هذه الفلسفات التربوية وتطبيقاتها السائدة في الدول المختلفة، ويقول كاندل في كتابه (دراسات في التربية المقارنة) إن القيمة الرئيسية للدراسة المقارنة لمشكلات التربية تتمثل في تحليل الأسباب التي أنتجتها، وفي مقارنة أوجه الاختلاف القائمة بين النظم المتعددة والدواعي التي تكمن تحتها، وأخيراً في دراسة الحلول التي جربت، ويرى كاندل أن القيمة الرئيسية للمعالجة المقارنة للمشكلات التعليمية تظهر في تحليل العوامل والأسباب التي أوجدت هذه المشكلات، ومقارنة الفروق بين النظم التعليمية المختلفة والعوامل التي أحدثت تلك الفروق، ودراسة الحلول التي وضعتها الدول المختلفة لمواجهة مشكلاتها التعليمية.
4- تعريف " جورج بيراداي " للتربية المقارنة:
يختلف بيراداي مع كاندل في اعتبار التربية المقارنة امتداداً لتاريخ التربية حتى الوقت الحاضر، ويؤكد على أنها دراسة تتداخل فيها ميادين المعرفة المختلفة، فلكي تحقق التربية المقارنة قيمة من دراسة أوجه الشبه والاختلاف في النظم التعليمية، فإن ذلك لا يتحقق إلا باعتمادها على ميادين متعددة كعلم الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها من المجالات وثيقة الصلة بالتربية، ويرى أن التربية المقارنة عبارة عن مسح تحليلي للنظم التعليمية الأجنبية، وأن دراسة المشكلات التربوية هي الموضوع الأساسي لدراسة التربية المقارنة، فالتربية المقارنة يجب أن تبحث عن المشكلات التربوية، وتصف مظاهرها ثم تتعمق في فهم أسبابها.
5- تعريف " هولمز " للتربية المقارنة:
يرى هولمز في التربية المقارنة أنها وسيلة لإصلاح أو تطوير النظم التعليمية، وفي نفس الوقت طريقة للبحث تهدف إلى نمو المعرفة في مجال التربية، فالتربية المقارنة علم نظري وتطبيقي من خلالها نصل إلى مبادئ أو حلول للمشكلات التي تواجهنا كما يمكن أن نصل إلى تشكيل سياسات للإصلاح بالإضافة إلى التنفيذ الفعال للسياسات التعليمية والتنبؤ بإمكانيات نجاحها.
6- تعريف " عبدالغني عبود " للتربية المقارنة " عام 1976م ":
يرى الدكتور عبدالغني عبود في كتابه " الأيديولوجيا والتربية " أن التربية المقارنة تعني دراسة نظم التعليم وفلسفاته، وأوصافه ومشكلاته في بلد من البلاد أو أكثر مع رد كل ظاهرة من ظواهرها، ومشكلة من مشكلاتها إلى القوى والعوالم الثقافية التي أدت غليها، بحثاً عن تلك (الشخصية القومية) التي تقف وراء النظام التعليمي بما فيه من ظواهر ومشكلات.
ويتضح من التعريفات السابقة، ان التربية المقارنة موضوع مستقل بذاته، فهي تهتم بالتربية في كل انحاء العالم أي أنها تُعنى بالتربية من منظور عالمي، وهي تعني أيضاً بالدراسة التحليلية للقوى الثقافية بهدف التوصل إلى فهم معقول لجوانب التشابه والاختلاف بين الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة، كما يوجد شبه إجماع بين تلك التعريفات على تضمين البعد النفعي أو الإصلاحي الذي توافره الدراسات التربوية المقارنة من خلال الاستفادة من تجارب الدول الأخرى وخبراتها في تحسين نظام التعليم القومي وتطويره.
- التطور التاريخي للتربية المقارنة:
لقد شهدت التربية المقارنة اهتماماً كبيراً في القرن العشرين، وذلك لأهمية دورها في مساعدة المسئولين عن التعليم وواضعي خططه وبرامجه لإحداث العديد من الإصلاحات التعليمية المنشودة ولزيادة كفاءة وفعالية النظام التعليمي، وتعتبر التربية المقارنة فرع من فروع التربية الحديثة نسبياً، إذا ما قورنت بالفروع الأصلية للتربية كفلسفة التربية وتاريخ التربية وغيرها، إذ يرجع التاريخ العلمي للتربية المقارنة إلى الدراسة العلمية التي وضعها (مارك أنطوان جوليان) الفرنسي عام 1817م بعنوان " مخططات ونظرات أولية لدراسة التربية المقارنة "، وذلا يعتبر جوليان مؤسس التربية المقارنة الحديثة ويلقب (بأبي التربية المقارنة)، ولا يعني هذا عدم وجود جهود سابقة في مجال التربية المقارنة قبل هذا التاريخ، وإن كان علماء التربية المقارنة قد اتفقوا على اعتبار الفترة السابقة لجهود جوليان فترة ما قبل تاريخ التربية المقارنة.
حيث كان للرحالة في مختلف العصور إسهامات بما ضمنوه في كتاباتهم من إشارات الى تربية الصغار في البلاد التي زاروها، فمنذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى الرابع عشر الميلادي كان لعلماء من العرب أمثال ابن جبير، وابن بطوطة وابن خلدون الفضل في توفير أول وثائق في التربية المقارنة على مستوى المنطقة العربية، ففي أثناء رحلتهم عبر المنطقة العربية لاحظوا البلاد وأوضاعها ومؤسسات التعليم بها، كما وصفوا المدارس التي شاهدوها، كما تناول ابن خلدون في كتاباته أوجه التشابه والاختلاف في التربية والثقافة بين المجتمعات التي زارها.
وقد شهدت الفترة من القرن الثامن عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، محاولات العديد من رواد التربية المقارنة أمثال " جوليان، وهوراس مان، وماثيو أرنولد، ومايكل سادلر، وهانز، وكاندل، وشنيدر "، لتطوير التربية المقارنة لتصبح علماً متخصصاً في دراسة التربية في سياق دولي، وقد حاولوا في سعيهم هذا أن تصبح التربية المقارنة علم ضمن منظومة العلوم التربوية.
وقد اهتم هذا الجيل الأول بفكرة الاستعارة " Borrowing " أي استعارة النظم التربوية الأجنبية ونقلها إلى بلدهم، وقد حذروا في هذا المجال من مخاطر الاستعارة، وأكدوا على أهمية تأثير القوى والعوامل الثقافية للمجتمع على النظم التعليمية وتوجيهها، كما حاولوا الكشف عن الطرق التي تربط التربية بالمجتمع، وتحليل الخصائص التربوية على ضوء تلك العوامل الثقافية المرتبطة بالمجتمع.
وعقب الحرب العالمية الثانية ظهر الجيل الثاني لرواد التربية المقارنة، والذي حدد هدفه يجعل التربية المقارنة اكثر علمية، وقد انعكس هذا الهدف في أعمال بعض الرواد أمثال " جورج بيراداي، وبراين هولمز، وغيرهم "، فبالإضافة إلى اهتمامهم بالعوامل والقوى الثقافية التي قد تؤثر في النظم التعليمية، كان من المهم أيضاً تحليل المشكلات التربوية التي تعاني منها تلك النظم التعليمية، وقد أدى ذلك إلى تغيير في منهجية البحث التربوي المقارن، حيث استخدم هذا الجيل طرق متعددة لتطوير مفاهيم جديدة في التربية المقارنة تجعلها أكثر علمية، ذلك لأنها علم متداخل التخصصات، وقد يسمح باستخدام مفاهيم وطرق بحث متعددة تساعد في تفسير وتحليل النظم التعليمية والتوجه نحو استشراق المستقبل.
ويتضح مما سبق، الانتقالة الكبرى التي انتقلتها التربية المقارنة، حيث انتقلت من مجرد (وصف) لنظم التعليم في البلاد الأجنبية، الى (تحليل) تلك النظم وتفسيرها وإلقاء الضوء عليها، بهدف الوقوف على الأسباب، أو القوى الثقافية التي أثرت فيها وشكلتها.
- أهداف التربية المقارنة:
من أهداف التربية المقارنة، ما يلي:
1- هدف عقلي – أكاديمي:
فالعقل الإنساني يجد متعة في معرفة الجديد، فلا شك أن دراسة نظم التعليم الأجنبية في إطارها الثقافي الشامل، تمثل نوعاً من المتعة العقلية خاصة بالنسبة للمشتغلين والمهتمين بالتربية، كما تعتبر التربية المقارنة امتداداً عبر الحدود الجغرافية تبين لدارسيها الاختلافات في النظريات التربوية والممارسات التعليمية في البلدان المختلفة مع توضيح القوى والعوامل التي تكمن وراء المظاهر التربوية المختلفة.
2- هدف إنساني:
إن من أهم أهداف التربية المقارنة تحقيق الوجود الإنساني السليم، ذلك الوجود الذي يتحقق عن طريق التربية القومية التي تهدف إلى استخراج اقصى طاقات الفرد البناءة، والى تعاون القوميات بعضها مع بعضها الآخر، فالتربية يجب أن تنمي في الفرد عاطفته دون أن تثير لديه التعصب الأعمى، كما يجب على التربية القومية أن تنفتح على القوميات الأخرى دون ان تخضع لها، حيث تبين التربية المقارنة لنا المشكلات العامة التربوية التي تعاني منها مختلف النظم التربوية على السواء مثل مشكلات المعلمين ومشكلات المناهج والامتحانات.... الخ، إلا ان التربية المقارنة تبين لنا فوق هذا، أن الحلول لهذه المشكلات هي التي تختلف من بلد إلى آخر، وذلك تبعاً للظروف التي تحيط بهذا البلد أو ذاك.
3- هدف نفعي إصلاحي:
إن بروز الاهتمامات بالتعليم بصورة متزايدة، وظهور المشكلات التعليمية المختلفة، وما ترتب على ذلك من ظهور الحاجة إلى الدراسات المقارنة للاستفادة منها في التعرف عل خبرات الآخرين في النظم التعليمية المختلفة، كما ان التربية المقارنة تساعد دارسيها على توسيع فهم مشكلات التربية في بلادهم، والتعمق في تحليلها.
ومع هذا فإنه ينبغي بالنسبة للجانب النفعي أن يتسم بالحذر، وذلك لأن نقل أو استعارة الأنظمة التعليمية عملية لا تؤمن عُقباها ما لم تتوافر لها ضمانات النجاح، ومن أهمها المواءمة والتكيف، ويؤكد هانز على هذا الهدف بقول: " إن هدف التربية المقارنة ليس فقط مقارنة نظم التعليم القائمة، ولكن وضع تصور لإصلاح التعليم، بحيث يكون الأفضل على ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة "، إن التربية المقارنة يجب ان تنظر بإصرار نحو المستقبل بقصد جاد للإصلاح، ولهذا فإنها دراسة لها طبيعة دينامية وذات هدف نفعي.
وهناك أهداف عديدة أخرى للتربية المقارنة، ومنها:
أ) أهداف نظرية:
وتشمل:
1- تنمية المعرفة بالنظريات والمبادئ التربوية بصفة عامة، وعلاقتها بالمجتمع بصفة خاصة.
2- تحقيق فهم أفضل لأنفسنا من خلال فهم أفضل لماضينا، وتحديد وضعنا بطريقة أفضل في الحاضر وتحديد ما يمكن ان يكون عليه مستقبلنا التربوي.
3- التعرف على ما يحدث في الدول الأخرى، وتزيد من وعينا وفهمنا للمشكلات والتحديات المعاصرة للتربية في أنحاء العالم.
4- توسيع فهمنا لنظمنا التعليمية من خلال معرفتنا بالآخر، ومعرفتنا باستجابات المجتمعات الأخرى لمشكلات مشابهة لمشكلاتنا مما يفيد في حلها.
5- التنوير الثقافي للمجتمع بأكمله اعتماداً على إثراء المناهج والمداخل العلمية في التربية المقارنة وهذا لحل مشكلات الواقع.
ب) أهداف تطبيقية:
وتشمل:
1- تزود واضعي السياسة التعليمية والمخططين للتعليم ببدائل رسم السياسة واتخاذ أساس سليم.
2- تسهم التربية المقارنة في صنع القرارات المتعلقة بالقضايا الحيوية للتربية.
3- نشر المعلومات التربوية والمساهمة الفعالة في برامج التطوير والإصلاح التربوي في مختلف دول العالم.
4- تؤكد على إمكانية نقل الأفكار التربوية من دولة لأخرى، فتكون نماذج عامة للتعليم في الدول المختلفة.
5- تحديد القوى التي تحكم مسار التغيير في النظم التعليمية وتوجيه مستقبلها.
6- تؤكد الدراسات المقارنة التطبيقية على مراعاة السياق الأيكولوجي الدينامي المتحرك عن إصلاح النظم التعليمية في الدول المختلفة.
7- أنها وسيلة لوحدة الأمة والمصالحة السياسية خاصة في المجتمعات التي تتميز بالتنوع الثقافي والسياسي.
- أهمية التربية المقارنة:
وتتضح أهمية التربية المقارنة، فيما يلي:
1- قد تساعد التربية المقارنة على فهم النظم التعليمية ومشكلاتها المتعددة وذلك في ضوء القوى الثقافية المؤثرة فيها، ولا شك ان دراسة النظم التعليمية على هذا النحو والتعرف على كيفية معالجة المشكلات التعليمية يؤدي إلى توسيع نظرة الدارس الى المجال التعليمي والتربوي بوجه عام، وزيادة مقدرته على فهم النظام التعليمي في بلدة والتبصر فيه، كما يحد من قبوله السلبي لكثير من أوضاع هذا النظام، ويربي فيه روح النقد البنَّاء، مما قد يدفعه إلى تقديم المقترحات الصحيحة للإصلاح التعليمي.
2- قد تساعد المعلم في أن يكون موضوعياً عند معالجة المشكلات التي قد تعترضه.
3- تعتبر دراسة التربية المقارنة عاملاً مهماً في إعداد وتطوير نموذج المعلم المنشود، والذي تعد درايته لنظامه التعليمي أساساً مهماً من أسس إعداده المهني.
4- يدرك المعلم أهمية الدراسات المقارنة في أنها تساعد في رسم السياسة التعليمية، او اتخاذ القرارات في ضوء البدائل التي توفرها الدراسات التربوية.
5- قد تساعد المعلم في التعرف على الاتجاهات العالمية المعاصرة بصفة عامة ومجالات الإدارة التعليمية الإشراف الفني بصفة خاصة.
هذا ولا تقتصر فائدة الدراسة المقارنة على الفهم المستنير للنظام التعليمي القومي والتعرف على المشكلات الخاصة به وكيفية معالجتها في ضوء ما تفعله الدول الأخرى. بل انها تنمي ايضاً الاتجاه الموضوعي نحو بعض المشكلات التعليمية التي تشترك فيها الدول جميعاً، فمثلاً مشكلة إعداد المعلمين قبل الخدمة وفي أثنائها ليست مشكلة قومية فحسب بل مشكلة عالمية، ولهذا يجب حلها على المستوى القومي والمستوى العالمي.
- أدوات التربية المقارنة:
للتربية المقارنة شأنها شأن بقية العلوم أدواتها التي تميزها عن سائر العلوم، ومن الضروري لدارس التربية المقارنة ان يتعرف على هذه الأدوات لكي تعينه على إجراء دراساته وأبحاثه، فالدراسات المقارنة يجب ان تبدأ أولاً بالتعرف على أوضاع وظروف نظام التعليم في مجتمع معين، وما وراء هذا النظام من مؤثرات وعوامل، وتحديد المشكلات التي قد تعترض هذا النظام التعليمي، ووضع الحلول المناسبة لها، لهذا فإن الدراسة المقارنة يجب أن تبدأ أولاً بدراسة المنطقة، وهذه الدراسة للمنطقة تستهدف الحصول على صورة دقيقة عن ظروف وأحوال التعليم ومشكلاته في مجتمع معين من مختلف جوانب هذا النظام، ومختلف المؤثرات فيه، وتتطلب هذه الدراسة من دارس التربية المقارنة توافر عناصر ثلاثة:
1- اللغة:
التمكن من اللغة التي يتكلم بها أهل المنطقة أو المجتمع الذي يحاول دراسة نظام التعليم فيه، فيجب لدى دارس التربية المقارنة معرفة وافية بلغة البلد الذي يريد أن يدرس نظامه التربوي، ولا ترجع أهمية اللغة في أنها تمكن الدارس من المصادر الأولية للمعرفة التي كتبها أو سجلها أهل البلد الأصليين فحسب، بل لأنه عن طريق تملك لغة البلد يستطيع الدارس أن يتصل بأهل هذا البلد مباشرة بسهولة ويسر والاطلاع على أدبهم وثقافتهم، وتفهم عاداتهم وتقاليدهم، وبالتالي يتمكن من الوصول إلى ثقافتهم وطبيعة قيمهم، وما تتضمنه لغتهم من معان لا تفصح عنها سوى للعارف بلغتهم، كما أن معرفة الدارس للغة البلد الذي يدرس نظامه التعليمي تزيده قدرة على الاتصال مباشرة بالأفراد المسئولين على وضع سياسة التعليم في هذا البلد أو القائمين على تنفيذ هذه السياسة من مديرين ومدرسين، كما تجعله أيضاً قادراً على الاتصال بالتلاميذ أنفسهم الذين لا يستطيعون الحديث بغير لغتهم الأصلية، كما أن الحديث مع هؤلاء جميعاً بلغتهم تشعرهم بجو من الاطمئنان والتلقائية والراحة في الحديث التي تسمح للدارس الحصول على البيانات والمعلومات التي يريدها.
2- الإقامة:
الإقامة لمدة مناسبة في هذه المنطقة، أو هذا المجتمع تتيح للدارس فرصة التعرف على مختلف جوانب النشاط فيه بصورة مباشرة، حتى يتسنى للدارس الحصول على المعلومات مباشرة عن أحوال التعليم وأحوال وظروف البلد عامة، وتجميع المصادر الأولية للمعرفة نتيجة لزيارة المؤسسات التربوية والمؤسسات الأخرى التي تهمه، والتعرف على طبيعة البلاد وتقاليدها وعاداتها، فمن المهم ان تمتد الإقامة إلى وقت مناسب، فلا تكفي الزيارة القصيرة التي تمتد إلى أسبوع أو أسبوعين، انما يجب ان تمتد الزيارة إلى شهر أو عدة شهور.
3- البعد عن التحيز:
الحرص الدائم والإصرار على الموضوعية، وترك التحيز الثقافي أو الشخصي الذي قد يظهر لدى الدارس، فيجب أن يكون الدارس غير متحيز للنظام الذي يدرسه أو نظام التعليم في بلده بسبب عقائده أو مفاهيمه الشخصية، فيجب ألا يتأثر بأفكاره الخاصة عن نظامه التعليمي أو الأفكار التربوية السائدة في بلده عند الحكم على الأفكار أو الأوضاع التربوية في البلد الذي يريد دراسته، وإنما لابد أن يحكم عقله قبل الحكم على نظام تعليمي سواء بالنجاح أو بالفشل، وإن ألد أعداء العملية في الموضوع الاجتماعية والتربوية هو هذه النظرة الشخصية، فإذا أردنا أن نضع علوم الاجتماع والتربية في نفس مستوى العلوم الطبيعية، فيجب أن نتخلص من الحكم الشخصي أو النظرة اللاموضوعية إلى القضايا التي تبحثها هذه العلوم.
- خطوات إجراء الدراسة المقارنة:
يحدد (بيرادي) أربع خطوات لإجراء الدراسة المقارنة، وهي على النحو التالي:
1- الوصف:
يعتبر الوصف الخطوة الأولى في أي دراسة مقارنة، وينصب اهتمام الباحث في هذه الخطوة على جمع المادة التربوية، ويلجأ إلى مصادر أولية وثانوية والزيارات الميدانية، ويستخدم الباحث الخرائط التوضيحية والرسوم التوضيحية، والجداول الإحصائية، وذلك طريقة عرض المادة في صورة مجدولة لفرض نوع من التنظيم على الكم الهائل من المعلومات والبيانات التي تتجمع لدى الباحث.
2- التفسير:
يمثل الخطوة التالية من خطوات إجراء الدراسة المقارنة، ويقصد بيرادي بالتفسير تقييم المادة التربوية لبلد واحد أو لمجموعة من البلدان في ضوء الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لهذا البلد، وأهمية هذه الخطوة تتبع من ان مجرد وصف النظم التعليمية لا يعتبر تربية مقارنة، ومن ان النظم التعليمية لا يمكن ان تكون بمعزل عن المجتمعات التي توجد فيها، لذا يجب الاستعانة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وثيقة الصلة بالتربية لتفسير الظواهر التربوية ولشرح الأسباب التي تجعل نظاماً تعليمياً معيناً على ما هو عليه، وهذا يجعل بيرادي يصف التربية المقارنة على انها فرع من فروع التربية تتداخل فيه العلوم الأخرى، ويتضح من ذلك أهمية إلمام باحث التربية المقارنة بأكثر من مجال من مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
3- المقابلة:
تمثل الخطوة الثالثة، وتهدف إلى مقابلة مادة تربوية بنظامين تعليميين لتحديد أوجه التشابه والاختلاف من أجل الوصول إلى فرض يساعد على التحليل المقارن، فالمقارنة لا تتيسر دون الوصول أولاً إلى إطار مشترك أو أرضية مشتركة يمكن ان تقوم عليها المقارنة او ما يسميه بيرادي " معيار المقارنة ".
4- المقارنة:
تعتبر الخطوة الرابعة للنموذج الذي يحدده بيرادي للتحليل المقارن وهو القيام بالمقارنة نفسها، وتعني عملية معالجة المادة التي تجمعت عن بلدين أو أكثر في ضوء الفرض أو المعيار المشترك الذي تم التوصل إليه في الخطوة الثالثة، وذلك بهدف التوصل إلى نتائج موضوعية تثبت صحة الفرض، ويعترف بيرادي نفسه بصعوبة تطبيق هذا النموذج في القيام بتحليل شامل بالنسبة لنظامين تعليميين أو أكثر.
- صعوبات البحث في التربية المقارنة:
من الصعوبات التي تواجه العمل في الدراسات المقارنة، ما يلي:
1- صعوبة اختيار عينات المقارنة:
والمقصود بها صعوبة اختيار النظام التعليمي المراد دراسته، حيث يتم اختيار النظام التعليمي في ضوء الهدف من المقارنة، فإن كان الهدف من المقارنة التطوير والإصلاح، فيتم أخذ الأنظمة في الدول المتقدمة.
2- صعوبة وضع أساس موضوعي موحد للمقارنة:
حيث يتطلب العمل في الدراسات المقارنة توحيد دلالة المصطلحات بين الدول المختلفة، فالمصطلحات قد يختلف مدلولها من دولة إلى أخرى، مثل مصطلح المدرسة الثانوية والمتوسطة، ومصطلح مدرسة يطلق على كلية جامعية في إنجلترا مثلاً، لذلك من المهم عند مقارنة ظاهرة تعليمية بين نظم تعليمية مختلفة يجب التأكد من أن المقارنة تتم بين مكونات تحمل نفس المواصفات لتكون المقارنة صحيحة.
3- صعوبة جمع معلومات موثوق بها:
دقة المعلومات مسألة حيوية في بحوث التربية المقارنة لما يترتب عليها من تحليل ومقارنة وتفسير للنتائج.
4- صعوبة الإلمام باللغة:
الإلمام بلغة البلد المراد دراسة النظام التعليمي فيه مهمة في فهمه فهماً عميقاً، لذلك يجب على باحث التربية المقارنة الإلمام بلغة عالمية أو أكثر وذلك للرجوع للمصادر المختلفة.
5- صعوبة توفير الإحصائيات:
اعتماد الدراسات المقارنة على الحقائق المتصلة بنظام التعليم في البلاد موضوع الدراسة وخاصة الإحصائيات، وهذه الإحصائيات قد لا تكون متوفرة، بل إنها غالباً ما تكون متوفرة خاصة في البلاد غير المتقدمة، التي تكون أجهزة الإحصاء فيها غير متقدمة بالقدر الكافي بشرياً وآلياً وفنياً، مما يجعل هذه الإحصائيات تتسم بعدم الدقة، كما أنها تكون غير منتظمة، مما يجعل الكثير منها، مع عدم دقته قديماً، وغير واف، أو أن تكون هذه الإحصائيات في بعض البلاد المتقدمة، في كثير من الأحيان مقصوداً بها الدعاية، ولذلك تعتمد على المبالغة، ومن ثم فهي تقوم بتزييف الواقع أكثر مما تقوم بتصويره، مما يجعل البيانات المتوفرة، حتى ولو كانت حديثة عاجزة عن مساعدة الباحث، في الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها.
6- صعوبة عدم التحيز:
فقد يترك الباحث الموضوعية ويتحيز نتيجة للوصف الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
7- صعوبة التعميم:
يصعب تعميم النتائج ولو في البلد الواحد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لاختلاف الممارسات التعليمية بين هذه الولايات.
End of Topic
(إيجاد)
(اطّلِع، تعرف، تعلم، درب عقلك، طور من نفسك، زِد معرفتك، كُن على معرفة، فالمعرفة بين يديك)
أهلاً ومرحباً بكم في | إيجاد | تسعدنا آرائكم ومشاركتكم معنا دائماً، فتشاركونا بآرائكم وتعليقاتكم التي تدفعنا إلى مزيداً من العطاء وإيجاد المعرفة