الدور الحضاري لمصر على مر العصور
شخصية مصر الحضارية وتميزها:
تميزت مصر بشخصية حضارية فريدة صنعها موقعها وطبيعتها ونيلها، ولكن الشعب المصري كان صاحب الدور الأكبر في مسيرتها الحضارية، فمصر لم تكن هبة النيل وحده، ولكنها كانت دائماً هبة الإنسان المصري الذي صنع هذه الحضارة في توافق وانسجام مع ما قدمته له البيئة المصرية من خيرات وما فرضت عليه من تحديات، كل ذلك جعل الانسان المصري ينتج حضارة من أعرق حضارات العالم ومن أبدع منجزات البشرية، ويكفي المصريين فخراً أننا لا نكاد نجد متحفاً في قارة من قارات الدنيا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يخلو من آثار الحضارة القديمة أو من آثار مصر التي تنتسب إلى العصر الإسلامي، فأقسام الحضارة المصرية في متاحف العالم خير شاهد على عبقرية الشعب المصري، وما الآثار إلا المظهر المادي الذي يعبر عن المستوى الحضاري للشعوب، وروعة الآثار المصرية ودقتها، وما سطره المصريون القدماء على جدران المعابد وعلى أوراق البردي يكشف عن حضارة إنسانية متقدمة فاقت حضارات الشعوب التي عاصرتها من حيث المستوى الإبداعي والقدرات العلمية والفنية.
الحضارة ليست إلا ما يقدمه شعب من الشعوب من مساهمة في تطور النظام الاجتماعي البشري الذي يشمل القدرة على تنظيم خلايا المجتمع بصورة تحقق التناسق والتكامل، وتحقق النهوض والتقدم للشعب، ويتضمن هذا التنظيم تحديد نظام الحكم وسن القوانين التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وتهيئ السبيل للإبداع العلمي والفني لمواجهة متطلبات المجتمع، مع رسوخ القيم الإنسانية التي تحقق ترابط المجتمع وتماسكه، سواء كانت تلك القيم روحيه أو اجتماعية.
قيام الحكومة:
كان التعاون لدفع الخطر وخدمة مصالح الجماعة، له أكبر الأثر في توجيه الشعب المصري القديم إلى توحيد الجهود وقيام التضامن التام بين الأفراد، وفرض النظام والطاعة على الجميع، وكان فيضان النيل هو الخطر المشترك الذي تعاون المصريون لمواجهته بتقوية الجسور وحراستها طوال موسم الفيضان وبناء القرى فوق تلال صناعية، وشق الترع والقنوات لري المزروعات وتوفير القوت.
فكان هذا التعاون رباطاً جمع سكان مصر منذ أقدم العصور وأقام مجتمعاً مترابطاً نواته القرية وإطاره الوطن كله، تسوده روح التضامن الاجتماعي التي لا تزال آثارها باقية في القرية المصرية حتى اليوم حين نجد الناس يهبون لنجدة بعضهم البعض في أوقات الأزمات.
وكان هذا الترابط والتعاون سبباً في قيام أقدم حكومة في العالم، نشأت على ارض مصر كضرورة فرضها ظروف الحياة في وادي النيل، وجعلتها ظاهرة تميزت بها الأمة المصرية منذ أول عصورها التاريخية، فقد ساعدت الحوادث الكثيرة التي مر بها المصري إبان عصور ما قبل التاريخ على وصوله إلى درجة كبيرة من النضوج أهلته إلى الوصول إلى التوحيد الكامل بين شمال الوادي وجنوبه، تحت قيادة زعيم واحد حوالي عام 3200 قبل الميلاد.
وقد نشأت في مصر منذ فجر تاريخها فكرة إيجاد حكومة مركزية يرأسها حاكم واحد هو الملك، وكان هذا الحاكم انساناً من البشر هيأته انتصاراته وقوة جيشه وكفاءته الشخصية في تنظيم شئون البلاد وإدارتها لأن يتولى الزعامة وأن يجعلها موروثة بين أبنائه وأحفاده.
وكان الملك هو الذي يجمع بين يديه الخيوط التي تهيمن على شئون الحكم في البلاد، كلمته هي القانون، ولكنه كان يحب ان يتمسك بالحق والعدل والنظام حتى يظل ممثلاً للآلهة تمثيلاً حقيقياً، وبقدر التزامه بذلك يتمتع برعاية الآلهة وتقدير الناس، والملك لا يدير الحكم وحده، ولكنه يسوس البلاد من خلال حكومة كانت من أعظم حكومات الدنيا عندئذ.
وقد تكونت الحكومة في مصر القديمة من مجموعة كبيرة من الموظفين يقومون على تنفيذ أوامر الملك، هو الذي يعينهم وهم مسئولون أمامه وحده، وكان القانون الذي تسير عليه البلاد هو محصلة التجارب المحلية والتقاليد المتوارثة، والأوامر التي يصدرها الملك الى وزيره لينقلها بدوره إلى موظفي الدولة.
وكان هناك بيت المال " وزارة المالية " الآن، وكان يتولى أمور الضرائب التي تجمع من انحاء البلاد، ويتولى إجراء تعداد عام لسكان البلاد مرة كل عامين، ثم أصبح التعداد يجرى بعد ذلك سنوياً، كما كان يتولى تسجيل ارتفاع منسوب النيل في موسم الفيضان حتى يتم تحديد الضرائب في ضوء توفير مياه الري.
وهناك إدارة الأشغال، وتتولى أعمال البناء سواء في ذلك المعابد والأهرام وغيرها من الأبنية الكبرى، كما تختص بالأعمال العامة مثل بناء السدود والترع والقلاع وغيرها.
كما كانت هناك إدارة للشرطة وحراسة الحدود تختص بحفظ الأمن داخل البلاد وتأمين الطرق وحراسة البعثات التي تعمل على استخراج المعادن وخاصة الذهب وصد غارات الأجانب على حدود البلاد، وتتبعها إدارة خاصة بالسلاح.
وأيضاً إدارة التسجيل والتوثيق وتتولى تسجيل التصرف في العقارات من بيع وشراء، والوصايا وهي إدارة يشبه عملها إدارة الشهر العقاري في النظام الإداري المعاصر الآن.
وكان القضاء يتبع الوزير الذي كان يعد كبير القضاة، يساعده عدد من القضاة، كما كان الوزير يرأس محكمة يشبه عملها عمل محاكم الاستئناف الآن، تتولى إعادة النظر في القضايا التي يحكم فيه القضاة بناءً على طلب المتخاصمين
إضافة إلى ذلك نظام إدارة الأقاليم التي قسمت إلى 42 إقليم على رأس كل منها حاكم يعاونه عدد من الموظفين الذين يمثلون مختلف فروع الإدارة المركزية نجد ا ن الحكومة في مصر القديمة كانت على درجة عالية من التقدم جعلتها تكاد تناظر نظام الدولة الحديثة، وكانت مصر في ذلك أسبق من غيرها من بلاد العالم القديم.
العلاقة بين الحاكم والشعب:
كما عرفنا أن حكومة مصر القديمة كانت حكومة مركزية على رأسها الفرعون الملك، يعاونه جيش من الموظفين، ورأينا كيف ان سلطة الملك كانت تقوم على تحقيق العدل والحق والنظام، وكلها دلالات للكلمة المصرية القديمة " ماعت " وكانت على الموظفين؛ كبارهم وصغارهم ان يراعوا " ماعت " في تعاملهم مع الناس
وكان الملك القوي يتشدد في محاسبة الموظفين الذين يقصرون في القيام بواجباتهم ويظلمون الناس، أما الملك الضعيف فكان عهده عهد تحطيم القواعد وإغفال العدل والحق والنظام، فيشتط الموظفون في تقدير الضرائب وفي جمعها، ويسيئون معاملة الناس، وقد يلجأ المظلوم إلى الحاكم شاكياً فينصفه ويعاقب الموظف الذي ظلمه.
ولدينا نموذجاً لذلك في قصة الفلاح المصري الذي استولى أحد اتباع الحاكم على متاعه وحميره فذهب يشكوه إلى سيده، وعندم لم يجدد الإنصاف عند الحاكم رفع شكواه إلى الملك، فأنصفه ووهبه أملاك من ظلمه، ورغم أن القصة غير حقيقة وتعد فناً من فنون الكتابة الأدبية إلا انها تعبر عن واقع كان قائماً في ظل الحكومة المركزية، حيث يعتبر حاكم الإقليم نفسه ممثلاً للملك فيطغى على الناس.
نصائح الملك " مريكا رع " لابنه:
في بردية النصائح التي وجهها والد الملك " مريكا رع " لابنه، نجده يضع أسس التعامل مع الناس عندما يقول:
أقم العدل لتوطد مكانتك فوق الأرض، وواسي الحزين، ولا تعذبن الأرملة، ولا تحرمن رجلاً من ميراث والده، ولا تضرن الأشراف في مراكزهم، لا تكونن فظاً لأن الشفقة محبوبة، وأسس آثارك على حب الناس، وسيحمد الناس الله على مكافآتك لهم.
وبعد أن يغرس الملك في ابنه حب الخير والعدل، يحذره من العقاب في الآخرة على ما قد يقترفه من ذنوب في حق الناس فإذا وقف أمام محكمة الآلهة بعد الموت سوف يحاسبونه على ما اقترفت يداه، وهم لا يرحمون الشقي عند مقاضاته، وتسوء العاقبة إذا كان المتهم هو الواحد العاقل (الملك).
نصائح من موظف كبير من المصريين القدماء لولده:
" احذر ان تسلب فقيراً بائساً، وأن تكون شجاعاً أمام رجل مهيض الجناح، ولا تمدن يدك لتمس رجلاً مسناً بسوء "
ويمضي الموظف الكبير في نصح ولده بعدم الاعتداء على ملكية الغير والاستيلاء على أراضي الضعفاء، وأن يمنع رجاله من فعل مثل ذلك، لأن الموظف الذي يفعل ذلك يكون ظالماً للضعفاء، عدواً لدوداً لرئيسه لأنه يعرضه لانتقام الله فيقول:
" احذر رب العالمين، ولا تتعدى على حرث (زرع) آخر، وتجني خبزك من حرثك، وأن المكيال الذي يعطيك إياه الله خير لك من خمسة آلاف تكسبها ظلماً ".
ثم يمضي الموظف الكبير في توجيه النصح لولده فيحذره من ظلم الناس عند تقدير الضرائب، فيقول:
" لا تضرن رجلاً بجرة قلم على بردية، لأن ذلك يمقته الله، ولا تفرضن ضريبة على شخص لا يملك شيئاً، ولا تستعملن قلمك على بردية، لأن ذلك يمقته الله، وخيراً للإنسان أن يأكل الخبز سعيداً من ان يكون ثرياً يعاني من الشقاء ".
ويمضي الرجل فيحذر ابنه من استغلال الفلاحين عند استلام نصيب بيت المال من المحصول سداداً للضريبة فيقول:
" لا تتلاعبن بكفتي الميزان ولا تطففن الكيل، ولا تزيدن في مكاييل الحقول (أي الضريبة) ثم تهمل مكاييل الخزانة ".
نصائح حكيم من المصريين القدماء للحاكم:
كان حكيمًا مصرياً قديماً يوجه النصائح للحاكم فيقول:
" إذا كنت حاكماً فكن شفيقاً حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسيء معاملته الى ان يغسل بطنه (أي يقول ما عنده) إذا كنت حاكماً تصدر الأوامر للشعب، فابحث لنفسك عن كل سابقة حسنة حتى تستمر أوامرك ثابتة لا غبار عليها، إن الرجل الذي اتخذ العدالة معياراً له، وسار وفقاً لجادتها يكون ثابت المكانة ".
وهكذا نجد العلاقة بين الحاكم والمحكومين في مصر القديمة كانت لها قيمها الأخلاقية وقواعدها التقليدية التي تدور حول أداء الشعب المصري القديم لواجباتهم وأداء ما عليهم من ضرائب، والتزام الحكام بإقامة العدل بين الناس، وحسن معاملتهم، وعدم التعرض لهم بالأذى، ولكن تكرار النصائح في الأدب المصري القديم بضرورة الكف عن أذى الناس وظلمهم يعكس حقيقة اختلال ميزان العدل في الإدارة، وهي صفة لازمت الحكومة المستبدة طوال العصور.
End of Topic
(إيجاد)
(اطّلِع، تعرف، تعلم، درب عقلك، طور من نفسك، زِد معرفتك، كُن على معرفة، فالمعرفة بين يديك)
أهلاً ومرحباً بكم في | إيجاد | تسعدنا آرائكم ومشاركتكم معنا دائماً، فتشاركونا بآرائكم وتعليقاتكم التي تدفعنا إلى مزيداً من العطاء وإيجاد المعرفة